الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
.[فرع: لا تحتسب إلا إصابة النصل] قال الشافعي: (إذا أصاب بالقدح.. لم يحتسب إلا ما أصاب بالنصل).قال أصحابنا: أراد (بالقدح): الفوق، وهو: الثلمة في أسفل السهم التي يوضع فيها الوتر، فإذا أصاب به.. لم يحتسب له؛ لأن ذلك من أسوأ الرمي. .[مسألة: عوارض تعتري الرمي] وإن انكسر القوس، أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح، أو أغرق السهم، فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، قال ابن الصباغ: لأن من شأن السهم أن يمر على إبهام يساره، فإذا زاد في النزع.. عثر السهم، فمر على أصل سبابة يساره، فإن رمى، ووقع السهم دون الغرض مع شيء من هذه العوارض.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ باختلال الآلة لا بسوء رميه.ومن أصحابنا من حكى وجهًا آخر: أن يحتسب عليه بالخطأ في إغراق السهم. والأول هو المنصوص. قال الشافعي بعد هذا: (فإن جاء السهم، وجاز من وراء الناس.. فهذا سوء رمي وليس بعارض، فلا يرد). واختلف أصحابنا في هذا: فقال أبو إسحاق: عطف به الشافعي على المسألة قبلها، وهو أنه إذا عرض له بعض العوارض التي ذكرناها، فلم يقصر سهمه، ولكن جاوز الغرض ولم يصبه.. اعتد عليه به في الخطأ؛ لأنه إنما لا يحتسب عليه به في الخطأ إذا قصر سهمه دون الغرض؛ لأن العارض منعه، فأما إذا جاوز السهم الغرض.. فإنه أخطأ بسوء رميه لا للعارض؛ لأنه لو كان للعارض تأثير.. لمنعه عن بلوغه. ومن أصحابنا من قال: هذه غير معطوفة عليها، بل هي مبتدأة، وأراد به: إذا رمى فجاوز سهمه الغرض، والناس الذين عنده يشهدون الإصابة من غير عارض.. فإنه يعتد عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بسوء رميه. فأما إذا عرض شيء من العوارض التي ذكرناها، وجاوز سهمه الغرض، وأخطأه.. فإنه لا يعتد به عليه في الخطأ، كما لو قصر سهمه عن الغرض. وإن أصاب الغرض مع شيء من هذه العوارض التي ذكرناها.. فهل تحتسب له الإصابة؟ حكى المحاملي، وابن الصباغ فيها وجهين: الأول: على قول أبي إسحاق: يعتد له به؛ لأنه لما اعتد عليه بالخطأ عند مجاوزة السهم الغرض.. اعتد له بالإصابة. والثاني: على قول غيره من أصحابنا: لا يعتد له بالإصابة؛ لأنه لما لم يعتد عليه بالخطأ.. لم يعتد عليه بالإصابة. وذكر في "المهذب" [1/427] أنه يعتد له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن الإصابة مع اختلال الآلة أدل على حذقه. .[فرع: انكسار السهم] وإن انكسر السهم، فوقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه.وإن أصاب بالنصل.. احتسب له به في الإصابة؛ لأن ذلك أدل على حذقه. وإن أصابه بفوقه أو عرضه.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ باختلال الآلة. .[فرع: حدوث عارض رد السهم]: وإن عرض دون الغرض عارض، من إنسان أو بهيمة، فإن رد العارض السهم، ووقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإن وقع السهم في العارض، ثم جاوز السهم الغرض ولم يصبه.. فهل يحتسب عليه في الخطأ؟ فيه وجهان، ذكرناهما في انكسار القوس وانقطاع الوتر:الأول: قال أبو إسحاق في "المهذب" [1/428] يحسب عليه. والثاني: قال غيره من أصحابنا: لا يحتسب عليه. وإن نفذ السهم في العارض وأصاب الغرض.. فهل يحتسب له في الإصابة؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان: أحدهماإن قلنا: يحتسب عليه. بالخطأ إذا جاوز الغرض.. احتسب له بالإصابة. والثاني: إن قلنا: لا يحتسب عليه بالخطأ عند مجاوزة الغرض.. لم يحتسب له بالإصابة. وقال الشيخ أبو إسحاق: يحتسب له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه. وإن رمى بسهم، فازدلف ووقع في الغرض وأصابه؛ بأن يقع في الأرض دون الغرض، ثم يقوم من الأرض إلى الغرض.. فهل يحتسب له بالإصابة؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: هما قولان: أحدهما: يحتسب له بالإصابة؛ لأنه أصاب الغرض بنصل السهم، فهو كما لو لم يزدلف سهمه. والثاني: لا يحتسب له في الإصابة؛ لجواز أن تكون الإصابة بازدلاف السهم في الأرض واضطرابه، لا بجودة الرمي. قال المحاملي: فعلى هذا: لا يحتسب له في هذا الرمي ولا عليه. وقال أبو إسحاق المروزي: يحتمل أن يكون على اختلاف حالين: فإن كانت الأرض أعانت.. لم يحتسب له، وإن لم تكن أعانت.. احتسب له. وإن ازدلف سهمه، فأخطأ.. قال المحاملي: احتسب عليه بالخطأ؛ لأن الازدلاف من سوء الرمي والخطأ فيه. وحكى صاحب "المهذب" فيه وجهين: أحدهما: يحتسب عليه فيه بالخطأ؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يحتسب عليه فيه؛ لأن الأرض تشوش الرمي، وتزيل السهم عن سننه، فإذا أخطأ.. لم يكن ذلك بسوء رميه. .[مسألة: يحتسب خاسقًا إذا خرق] قال الشافعي: (ولو تشارطا الخواسق.. لم يحتسب له خاسقًا حتى يخرقه فيتعلق بنصله) وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فإن أصاب السهم الغرض وثقبه وثبت فيه.. حسب له في الإصابة؛ لأن هذا هو الخاسق، وإن خدشه ولم يثقبه.. احتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخسق، وإن ثقبه وسقط عنه ولم يثبت فيه، فهل يحتسب له خاسقا؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:أحدهما: يعتد له به في الإصابة؛ لأنه قد خرقه، والخسق والخرق واحد، ولعله لم يثبت فيه لسعة الثقب. والثاني: لا يحتسب له فيه، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما مخالف للآخر في الاسم والمعنى، والخسق أعلى من الخرق. فعلى هذا: يحتسب عليه فيه بالخطأ. وإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقا فأصاب وخرق أو خسق أو خرم أو مرق.. احتسب له في الإصابة؛ لأن الإصابة توجد في هذه الأنواع. .[فرع: اشتراط الخسق] وإن كان الشرط بينهما الخسق، فأصاب أحدهما الغرض وكان ملصقًا بالهدف، فسقط عنه السهم ولم يثبت فيه، وادعى الرامي أنه قد خسق وإنما لم يثبت سهمه لغلط لقيه من نواة أو حصاة أو ما أشبه ذلك، وقال المصاب عليه: إنما لم يثبت سهمك لسوء رميك، لا لما ذكرت، فإن علم موضع الإصابة باتفاقهما، أو بقيام البينة عليه.. نظرت:فإن لم يكن في الغرض ما يمنع ثبوت السهم وقد خرقه.. ففيه قولان بناء على أن الخارق هل يحسب خاسقًا؟ فإن قلنا: يحسب له.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يحسب له.. حسب عليه في الخطأ. وإن علم موضع الإصابة، وكان فيه ما يمنع من جري السهم من نواة أو حصاة، وقد خرق إلى أن يبلغ إلى المانع، فإن قلنا: إن الخارق يحسب خاسقًا.. حسب له في الإصابة. وإن قلنا: لا يحتسب الخارق خاسقًا.. لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه إنما لم يخسق للعارض، لا لسوء رميه. وإن علم موضع الإصابة ولا مانع فيه، ولا خرقه الرامي.. حسب عليه في الخطأ، ولا يمين على المصاب عليه؛ لأن ما ادعاه الرامي غير ممكن. وإن كان هناك مانع، فقال الرامي: لم يخرق سهمي للمانع، وقال المصاب عليه: لم يخرق سهمك لسوء رميك لا لمانع.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: القول قول الرامي مع يمينه؛ لأن المانع يشهد له. والثاني: القول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق. وإن لم يعلم موضع الإصابة: فإن فتش الغرض ولم يوجد وراءه حصاة، ولا نواة تمنع الخسق.. فالقول قول المصاب عليه بغير يمين؛ لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن، ويحسب على الرامي بالخطأ. وإن وجد بعد الغرض ما يمنع من الثبوت.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن ما يدعيه الرامي ممكن، فلذلك حلف المصاب عليه. .[فرع: إصابة الخرق وثبوته فيه] قال الشافعي: (وإن كان الشن باليًا، فأصاب موضع الخرق، فغاب في الهدف.. فهو مصيب).وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فوقع السهم في موضع من الغرض قد خلق وبلي، أو ثقبه كانت فيه، وثبت في الهدف، فإن كان الهدف قويًا مثل صلابة الشن، بأن يكون بناء أو طينًا يابسًا وما أشبهه.. احتسب له فيه؛ لأنا نعلم أن السهم لو وقع في الغرض لخسقه. وهذا مراد الشافعي. وإن كان الهدف ترابًا أو طينًا رطبًا.. لم يعتد له به؛ لأنا لا نعلم لو أصاب الغرض، هل كان يثبت أم لا؟ ولا يحتسب عليه به في الخطأ أيضًا؛ للاحتمال فيه. وإن كان الشرط الخسق، فأصاب طرف الشن وخرقه وثبت مكانه، فحصل الشن من أحد جانبي السهم والجانب الآخر فارغ.. ففيه قولان، حكاهما المزني في " المختصر ": أحدهما: لا يعتد له به؛ لأن الخاسق هو الذي يثبت في الغرض، ويحيط الغرض بجميع السهم، والغرض هاهنا لا يحيط بجميع السهم، فلم يعتد به خاسقًا. والثاني: يعتد له به. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن الخاسق هو الذي يصيب الغرض ويثبت فيه وقد وجد ذلك. .[فرع: المروق في الغرض خسق] وإن كان الشرط الخسق، فرمى أحدهما فوقع في الغرض ومرق منه.. قال الشافعي: (كان عندي خاسقا) قال: (ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه).واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: هو خاسق قولًا واحدًا، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره؛ لأنه قد وجد فيه الخسق وزيادة. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يعتد به خاسقًا؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يعتد له به؛ لأن المقصود بالمناضلة أن يعلم حذق الرامي وحسن رميه، والخسق فيه ضرب من الحذق وهو أن ينزع نزعًا يعلم أن سهمه يثبت في الغرض، ولا يزيد عليه، فإذا مرق، لم يوجد هذا المعنى، ولم يعد مصيبًا. قال في "الأم" [4/150] إذا كان الشرط الخواسق، فرمى أحدهما، فوجد السهم في ثقبة من الغرض، وهو ثابت في الهدف مع جليدة من الغرض، فقال الرامي: خسقت، ولشدة الرمي قطعت هذه الجليدة، وثبت في الهدف، فأنكر الآخر، وقال: بل كان في الغرض ثقبة وفيها هذه الجليدة، فوقع سهمك في الجليدة.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ـ كما قدمنا في المسألة قبلها ـ إن كان الهدف رخوًا.. لم يثبت كونه خاسقًا، وإن كان صلبًا.. كان خاسقًا. وأراد: إذا كان الهدف رخوًا.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه. وإن كان صلبًا.. حكم للرامي بالخسق من غير يمين؛ لما قدمناه. .[مسألة: ما يبطل المناضلة] وإن مات أحد المتناضلين، أو ذهبت يده.. بطلت المناضلة؛ لأن المقصود معرفة حذقهما، وقد فات ذلك.وإن مرضا، أو أحدهما، أو رمدت عينه.. لم يبطل العقد؛ لأنه يمكن استيفاء ذلك بعد زوال العذر، ويحتمل أن يثبت للآخر الخيار في فسخ العقد؛ لأنه تأخر المعقود عليه. وإن أراد أحدهما أن يفسخ العقد، أو يجلس عن الرمي، وكان العوض منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يصح فسخه، وأجبر الممتنع منهما عن الرمي بالحبس والتعزير، وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن كان قبل الرمي أو بعد الرمي، وهما متساويان في الإصابة.. صح الفسخ، ولم يجبر الممتنع عن الرمي. فإن كان أحدهما قد ظهر له فضل إصابة، فإن كان الذي فسخ أو امتنع من الرمي هو الفاضل.. صح فسخه، ولم يجبر على الرمي، وإن كان الفاسخ أو الممتنع هو المفضول، فهل يصح فسخه، ولا يجبر على الرمي؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في أول الباب. وإن شرطا أن كل واحد منهما يجلس عن الرمي أي وقت شاء، فإن كان ذلك في حال العقد، فإن قلنا: إن العقد لازم.. بطل الشرط والعقد، وإن قلنا: إنه كالجعالة.. لم يبطل العقد؛ لأنه شرط ما هو من مقتضى العقد. وإن كان هذا الشرط بعد العقد.. لم يبطل العقد، قولًا واحدًا، كما لو شرطا في البيع شرطًا باطلًا بعد العقد وانقضاء الخيار. .[مسألة: لا يعجل أحد المتناضلين صاحبه] وإذا رمى أحد المتناضلين فأصاب.. فليس للمصيب أن يعجل صاحبه في الرمي ويدهشه؛ لأنه ربما أخطأ مع العجلة. وليس للمصاب عليه أن يطول إرساله، فيمسح قوسه وسهمه، ويمد مدًا طويلًا، يقصد بذلك تبريد يد المصيب؛ لينسى القصد الذي أصاب به، ويقال له: لا نكلفك أن ترمي على عجلة، ولا يجوز أن تطول لتضر بصاحبك، ولكن ارم على حسب العادة. وليس للمصيب أن يفتخر في إصابته، ويتبجح فيها؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه ويدهشه.ويستحب أن يكون عند الغرض شاهدان ليشهدا الإصابة والخطأ، ويخبرا بها، وليس للشاهد أن يمدح المصيب؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه، ولا يذم المخطئ؛ لأنه إنما استحب كونه هنالك للشهادة، ولا للمدح والذم. وبالله التوفيق .[كتاب إحياء الموات] يجوز إحياء الموات وتملكه بذلك؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له، وليس لعرق ظالم حق».وروي: «لعرق ظالم» بإضافة العرق إلى ظالم. وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» وأراد به في الموات. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني». وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» هكذا روي بفتح الميم والواو. و" الموتان" ـ بضم الميم وسكون الواو ـ: الموت الذريع. و" الموتان" ـ بفتح الميم وسكون الواو ـ عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب: إذا كان لا يفهم. وأجمع المسلمون على جواز إحياء الموات والتملك به. إذا ثبت هذا: فإن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز إحياء الموات إلا بإذن الإمام). وقال مالك: (إن كان قريبًا من العمران في موضع يتشاح الناس فيه.. افتقر إلى إذن الإمام، وإلا.. لم يفتقر). دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له»، و «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» ولم يفرق بين أن يكون بإذن الإمام، أو بغير إذنه، ولأنها عين مباحة، فلم يفتقر تملكها إلى إذن الإمام، كالصيد والحشيش. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهي لكم مني» أراد: هي لكم أن تحيوها. .[مسألة: البلاد نوعان] والبلاد على ضربين: بلاد إسلام وبلاد شرك. فأما بلاد الإسلام فعلى ضربين: عامر وموات.فأما العامر: فهو لمالكه، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في شيء منه إلا بإذن مالكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه.. طوقه الله إياه يوم القيامة إلى سبع أرضين». إذا ثبت هذا: فإن كان هذا العامر يجاور مملوكًا، كالدور والأرض المتلاصقة.. فإن ملك كل واحد منهما لا يتجاوز إلى ملك غيره، إلا أن يكون له في ملك غيره رسم مسيل ماء، أو طريق، فله ذلك، ولكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه بما شاء من وجوه التصرفات وإن كان فيه ضرر على جاره. وإن كان العامر يجاور مواتًا.. فلصاحب العامر من الموات الذي يجاور ملكه ما لا يمكنه الانتفاع بالعامر إلا به، مثل الطريق، ومسيل الماء الذي يخرج من الدار، وما تحتاج إليه الأرض من مسيل الماء. وإن كانت بئرًا.. فله من الموات قدر ما يحتاج إليه في نزع الماء منها، فإن كانت يستقى منها بالسواني.. فقدر ما تحتاج إليه من السانية في ذهابها ومجيئها. وإن كان دولابًا.. فقدر ما يدور فيه الثور. وإن كانت للماشية.. فقدر ما تعطن فيه الماشية. وإن كانت ليستقى باليد منها.. فقدر ما يقف فيه المستقي، ولا يقدر ذلك بشيء. وقال أبو يوسف: حريم البئر أربعون ذراعًا، وحريم العين خمسمائة ذراع. وقال أحمد: (حريم البئر خمسة وعشرون ذراعًا، إلا أن يكون البئر عاديًا، فحريمه خمسون ذراعًا؛ لما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا». وأراد بقوله: (البديء) الذي ابتدئ حفرها. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها، كلها لأعطان الإبل والغنم، وابن السبيل أول شارب، ولا يمنع فضل ماء يمنع به الكلأ». وإنما حد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حريم البئر بأربعين ذراعًا على عادة أهل الحجاز؛ لأنهم كانوا يحفرون آبارًا عميقة يغور الماء فيها، فيحتاج أن يمشي الثور فيها أربعين ذراعًا. وأما الخبر الذي رواه أحمد: فمختلف، وإن صح حملناه على ما تدعو الحاجة إليه. قال الشيخ أبو حامد: وللدار حريم، فإذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها.. منع منه. قال ابن الصباغ: وعندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ألا ترى أنه لو أراد رجل أن يحيي إلى جنبها دارًا.. لم يلزمه أن يبعد عن فنائها؟ وإنما يمنع من حفر البئر في أصل الحائط؛ لأنه يضر به، وينبغي إذا كان لا يضر به أن يجوز. وهل يكون صاحب العامر مالكًا لمرافق العامر من الموات؟ حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يكون مالكًا له، وإنما يكون أحق به؛ لأنه لم يحصل له فيه إحياء، فلم يملكه. وقال القاضي أبو الطيب: يكون مالكًا له؛ لأنه تابع للعامر، فلما كان مالكًا للعامر.. ملك ما تبعه. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن العامر إذا بيع دخلت هذه الحقوق في البيع، ولأن معنى الملك في هذه الحقوق موجود، فإنه لا يجوز لأحد إحياؤها، وقد اختلفوا في ثبوت الشفعة في الطريق، وهذا يدل على ثبوت الملك فيها. وأما الموات: فعلى ضربين: ضرب: لم يجر عليه ملك قط لأحد، فهذا يجوز إحياؤه وتملكه، وهذا الذي ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له». والضرب الثاني: موات قد كان جرى الملك عليه لمسلم ثم مات، أو غاب وخربت الأرض وصارت كالموات، فإن كان المالك لها معروفًا.. فهذا لا يجوز إحياؤه بلا خلاف، كما قلنا في العامر، وإن كان المالك لها غير معروف.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يملك ذلك بالإحياء عندنا. وقال أبو حنيفة: (يملك بالإحياء). وحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: أن ذلك وجه لبعض أصحابنا؛ لأنها عادت مواتًا كما كانت، فصارت مباحة كما لو لم يجر عليها أثر ملك. ودليلنا: ما روى كثير بن مرة، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة في غير حق مسلم.. فهو أحق بها» وهذه في حق مسلم. وروى ابن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد.. فهو أحق بها» ولأن هذه لها مالك، فلا يجوز إحياؤها كما لو كان المالك لها معينًا. وأما بلاد الشرك: فضربان، عامر وموات: فأما العامر، وما يحتاج إليه العامر من المرافق: فإنه ملك للكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] فأضافها إليهم، فدل على: أنهم ملكوها ولا يجوز إحياؤها، وإنما تملك بالقهر والغلبة. وأما الموات: فإن كان قد جرى عليها ملك لمالك معروف.. لم يجز إحياؤها، كالعامر، وإن لم يجر عليها ملك.. جاز إحياؤها. ومن أحياها ملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق. فعلى هذا: إذا أحيا مسلم مواتًا في أرضهم، ثم ظهر المسلمون على أرضهم فملكوها.. كانت غنيمة، إلا ما أحياه المسلم. وإن كانت مواتًا قد جرى عليها أثر ملك لهم، ولا يعرف مالكها، فهل يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 342] قولين: أحدهما: يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» وأراد به: الأرض التي كانت ملكًا لقوم عاد، ولأنه لو وجد في بلاد الشرك ركاز من ضرب المشركين.. لملكه بالوجود وإن كان قد جرى عليه ملك مشرك، فكذلك إذا أحيا مواتًا جرى عليه ملك لمالك غير معروف من المشركين. والثاني: لا تملك بالإحياء. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والموات ما ليس عليه أثر عمارة)، ولأنها أرض حية جرى عليها الملك، فلم تملك بالإحياء، كما لو كان لها مالك معروف، ولأنه يجوز أن تكون لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يكون ماله مباحًا. ومن قال بهذا.. قال: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عادي الأرض لله ولرسوله» أراد به: الملك القديم، فعبر عن الملك القديم بالعادي؛ لأنه يقال: شيء عادي، أي: قديم. فإن أحيا المسلم مواتًا في بلد صولح الكفار على الإقامة فيها.. لم يملكها بذلك؛ لأن الموات يتبع البلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم، فكذلك ما تبعه. |